إعلان

Header Ads
أحدث الأخبار

المدينة الفاضلة في القصيدة العربية المعاصرةبقلم د. كاميليا عبد الفتاح


المدينةُ الفاضلة في القصيدة العربية المُعاصرة
دراسةٌ نقديةٌ حول الرؤى والطرح الفني) 
(  نُشرت في مجلة الكويت أبريل 2018 م 
بقلم د. كاميليا عبد الفتاح 
الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد 
جامعة الباحة ( سابقًا ) 
****

* هي مدينةُ المثال المُرتجى ، مدينة الفضائل والحلم ؛ حيثُ تهيمنُ العوالمُ الروحية ، وتتراجعُ القيم المادية الطينية  . هذه المدينةُ " اليوتوبيا " محلّ شغف الرَّائين – ومطاردي الرؤى – من الأدباء والشعراء – والمبدعين عامة – وهذه المدينةُ تسكنُ حلمَ الشاعر وشغفه ، وتتحققُ في رؤاه الفنية وفي تجربته الجمالية ، وفي سعيه – المتفرِّد – لتحقيق الانسجام مع الوجود . 
وقد سجّل بعضُ الشعراء شهادتهم حول  رحلة  بحثهم – الروحية –عن هذه المدينة الفاضلة ، في رصدٍ دقيقٍ لما يكتنفُ هذه الرحلة من مشاقٍ نفسيةٍ وتوتّر فني . يقول عبد الوهال البيّاتي : 
" منذُ عام 1926م  - وهو عام مولدي -  وأنا في طريقي إلى المدينةِ التي لم أصلها بعد . والغريبُ أنّ السفر الذي هو قناعُ الموت والميلاد هو الذي كان يخسرُ اللعبةَ وكنتُ أنا الذي أربحُها دائمًا " ( عبد الوهاب البيَّاتي . تجربتي الشعرية) 
وفي رؤية خاصةٍ ، أطلقَ البيّاتي على  المدينة الفاضلةِ اسم " مدينة الشاعر " ، وكأنّه يرى الشعراء حراسَ المُثل والقيم والجمال والحلم ،  يقول البياتيّ  مُتابعًا  : " لكن الطفلَ الذي كنتُه أنا ، والذي انحدرَ من أعماق قريةٍ فقيرةٍ حُكمَ عليها بالصمتِ منذ آلافِ السنوات ، كان يحملُ مدينةَ الشاعر التي لا يكادُ يزولُ عنها الشتاء ، بالرغم من شمس الشرق الساطعة – معه – بعيدًا عن أعين الفضوليين الأدعياء . " ( عبد الوهاب البيَّاتي . تجربتي الشعرية ) 

وتتخذُ هذه المدينةُ في الطرح الشعري المعاصر  عدّة صورٍ ، فتتمرأى في صورة الوطن تارةً ، كما تتخذُ وضعيةً  كونية ميتافيزيقية - تارةً أخرى -  وذلك وفقًا للاتجاه الشعري – والأيديولوجي – الذي تنبثقُ منه رؤية الشاعر المعاصر لها  . 

• تنطلق  رؤية أمل دنقل للمدينة الفاضلة من اتجاهه الواقعي ، وانغماسه في تفاصيل إشكاليات الوطن ، والأمة ، ولذلك تتخذُ المدينةُ الفاضلةُ في طرحه الشعري ملامحَ الوطن القوي القادر على حماية أبنائه وإمدادهم بأسبابِ الحياة ومقوماتها ، والقادر على إشباع حاجاتهم المادية - والروحية والعقلية -  إلى الحق  والعدل والخير والجمال . 
يطرحُ " دنقل " هذه الرؤية في قصيدته " مزامير " – من ديوان العهد الآتي -   مرتكزًا على التوظيف الرمزي للمفردات  ،  حيثُ  " الكمان " رمزٌ الحلم ، و" الريح " رمزٌ الحرب والموت وقوى التدمير . تبرزُ المدينةُ الفاضلةُ - وسط الصراع الدائر بين هذه القُوى – أرضًا للنور والسلام والحب .  يقول دنقل  : 
لماذا إذا تهيَّأتُ للنومِ يأتي الكمان 
فأُصغي له آتيًا من مكان بعيد 
فتصمتُ همهمةُ الريح خلفَ الشبابيك 
نبضُ الوسادةِ في أُذني
تتراجعُ دقاتُ قلبي 
وأرحلُ في مدنٍ لم أزرها 
شوارعُها فضةٌ 
وبناياتُها من خيوطِ الأشعّةِ 

أَلقى التي واعدَتني على ضفّة النهر واقفةً 
وعلى كتفيها يحطّ اليمامُ الغريب 
ومن راحتيها يغطَ الحنانُ 
أُحبك ، صارَ الكمانُ كعوبَ بنادق ْ 
وصارَ يمامَ الحدائق 
قنابل تسقطُ في كلّ آن 
... ... ... ... ... 
وغاب الكمان   " 
وفي قصيدته " حكاية المدينة الفضّية " – من ديوان " تعليق على ما حدث  " - يديرُ " دنقل " الصراعَ بين المدينة الواقعية ، ومدينته الفاضلة التي استلبها الواقعُ القبيح  ،  يُطلقُ  نداءهُ باحثًا عنها  - سُدى – رامزًا بالفجوة الواقعة بين الصوت والصدى إلى الهوة الفاجعة بين الواقعِ والحلم . يقول دنقل : 
" أبحثُ عن مدينتي التي هجرتُها 
                       فلا أراها
أبحثُ عن مدينتي : 
                    يا إرم العماد 
                    يا إرم العماد  
يا بلدَ الأوغاد والأمجاد 
رُدّي إليّ صفحة الكتاب 
وقدحَ القهوة ... واضطجاعتي الحميمة 
فيرجعُ الصدى ... 
كأنّه اسطوانةٌ قديمة : 
يا إرمَ العماد ْ 
يا إرمَ العماد ْ 
رُدّي إليه صهوةَ الجواد 
وكتبَ السحر 
وبعضَ الخبز في زوّادة السفر 
فقلبي الذي انشطر 
يرقدُ فوق زهرة اللّوُتس في المنفى 
يُطالعُ المكتوب 
منتظرًا حتى يفور الكوب ُ 
في يده 
يُديرُ فوق جسمِه رداءهُ المقلوب 
لكي يعود في مواسم الحصاد 
أغنيةً .. أو وردةً 
للباحثين عن طريقِ العودة " 4 ) 
•  استطاعَ بعضُ الشعراءِ المُعاصرين أنْ يُضفي على قريتِه أبعادًا رمزيةً ارتفعت بها إلى مصاف المكان الأسطوري ، والمدينة الفاضلة  ، ويعدّ بدر شاكر السيّاب من أبرز الشعراء الذين نحوا هذا المنحى الفنّي ؛ فقد استطاع 

أن يجعل  قريته " جيكور " أسطورته الخالدة ، و  نحتَ لها من الملامح الحُلمية ما رفعها إلى هذه المصاف ،  ومن ثمّ استطاع أن يطرح " جيكور " رمزًا للمدينة الفاضلة التي تقتضي في الارتحال إليها طقوسا حُلمية غرائبية ، تكون فيها  جيكور بين الوميض والاختفاء . يقول السياب في ديوان " أنشودة المطر " : 
" وجيكور خضراءُ 
مسّ الأصيلُ 
ذُرى النخل فيها 
بشمسٍ حزينة 
ودربي إليها كوميض البروق 
بدا واختفى ثم عاد الضياءُ فأذكاهُ حتى أنار المدينة 
وعرى يدي من وراء الضمادِ كأنّ الجراحاتِ فيها حروق ْ " 5 ) 
ويرتكزُ السيّابُ على ثيمة التراث الشعبي في إضفاء الملامح الأسطورية على " جيكور " ؛ فيصورها في هيئة المدينة المنيعة المُستعصية – التي تُذكّرنا بالغرف المسحورة في  ألف ليلة وليلة  -  بما يدفعه إلى خوض صراع غير متكافئ في محاولة الظفر بها  . يقول السيّاب : 
" وجيكورُ من دُونِها قام سور ٌ 
وبوابةٌ 
واحتوتها السَّكينة 
فمنْ يخرقُ السور َ ؟ يفتحُ البابَ ؟ يُدمي على كل قفلٍ يمينَه 
ويُمناي : لا مخلبٌ للصراع فأسعى بها في دروب المدينة 
ولا قبضة لانبعاث الحياةِ من الطّين .. لكنها محض طينة 
وجيكورُ من دونها قام سورٌ 
وبوابةٌ 
واحتوتها سكينة .  6 ) 
وينطلقُ السيابُ من الفكر الأسطوري في التبشيرِ ببعث " جيكور " ، فيبرزُها في صورة الفينيق المنبعث من رماده ، و " تموز " -  إله الخصب في الأسطورة اليونانية  - بما يمتزجُ بدلالة البعث في الطرح الواقعي .  يقول في قصيدة " تموز جيكور " : 
" جيكورُ ... ستولدُ جيكور 
النورُ سيورقُ والنور 
جيكور ستولدُ من روحي 
من غُصّة موتي من ناري " 7 ) 
• أسطرة  القُرية واتخاذها رمزًا للمدينة الفاضلة  منهجٌ فني ارتكز عليه بعضُ شعراء الاتجاه  الحداثي  لإبراز قراهم في صورة تجمع بين السمت الأسطوري والسمت الحداثي . من أبرز الشعراء الذين نحوا هذا المنحى : أدونيس ، وذلك في طرح قريته " قصابين "  مدينة فاضلةً أسطورية تحتفي بالبحر والموج ، تسافر مع سمكة قارئة – كإشارات رمزية إلى تبنّي الإدهاش والمغاير وترك التقليد – يقول أدونيس في قصيدته " سيمياء " ، وهي من ديوانه " مُفرد بصيغة الجمع " :  

" ها هي قصّابين 
تبدأُ كما يبدأُ النهرُ وتتجهُ إلى فاتحة البحر 
يختلطُ ماؤها بمائه 
تخرجُ في الليل ، تتندّى 
تجلسُ مع سمكةٍ تقرأُ 
ولها قرنان يُضيئان 
تسافر مع سمكة 
ينبتُ بين كتفيها الزهر 
وأحيانا ينبتُ الطحلب " 8 ) 
• تكتسي المدينةُ – أو الأرض -  الفاضلةُ ملامح ميتافيزيقية في طرح – بعض – الشعراء المعاصرين ، ومنهم " صلاح عبد الصبور " الذي يطرح في قصيدته " الخروج " -  من ديوان " أحلام الفارس القديم " -  تفاصيلَ رحلته من موطنٍ قديمٍ إلى آخر مُغاير ، وتتخذُ رحلته سمتًا ميتافيزيقيًّا  يبدو فيه  الخروجُ خلاصًا روحيا من مشقة الطين الأرضي ، ورحلةً رمزية  صوب المختبئ النوراني في التكوين الإنساني ، كما يبدو – هذا الخروج ُ-  رحلةً للانغماس في أسرار الوجود . بهذه الدلالات تبرزُ ذاتُ الشاعر ذاتًا  إنسانيةً مغتربة ، تكابدُ الاغتراب في دلالته الروحية والفلسفية ومصافه العقلية ، بما يبرزُ الاتّساق بين هذه المصاف وبين التوظيف الرمزي لتفاصيل – ومفردات – هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلّم – يقول صلاح عبد الصبور : 
" أخرجُ من مدينتي من موطني القديم
مُطرحًا أثقال عيشي الأليم 
فيها ، وتحت الثوب قد حملت سرى 
دفنتُهُ ببابها ، ثم اشتملتُ بالسماء والنجوم 
لم أتخيّرْ واحدًا من الصحاب 
لكي يُفدّيني بنفسه ؛ فكل ما أريدُ قتل نفسي الثقيلة 
ولم أغادر في الفراش صاحبي يُضلل الطلاب 

فليس منْ يُطلبني سوى " أنا " القديم " 9) 
من هذا الأفق  الميتافيزيقي  تنطلق  رحلة  صلاح عبد الصبور – في قصيدة الخروج – صوبَ هدفين : ذاتُه القديمة – وهي رمزٌ للفطرة والوجود الجوهر – والمدينةُ الفاضلة التي يصفُها بأنها مدينةُ النور والرؤى والشمس والحق . يقول عبد الصبور  :
" لو متّ عشتُ ما أشاءُ في المدينة المنيرة 
مدينةِ الصحو الذي يزخرُ بالأضواء 
الشمسُ لا تفارقُ الظهيرة 
أوّاهُ ، يا مدينتي المنيرة 
مدينة الرؤى التي تشربُ ضوءًا 
مدينة الرؤى التي تعجّ ضوءًا 
هل أنتِ وهمُ واهمٍ تقطّعتْ به السبل 
أم أنتِ حق 
أم أنتِ حقّ ؟ " 10 ) 
هكذا تبدو المدينةُ الفاضلةُ وجهةَ الشعراء المعاصرين وقِبلتهم التي يواجهون بها الوجود المادي ، والواقع المضطرب ، والأحلام المراوغة . ورغم اختلاف اتجاهات الشعراء المعاصرين – ما بين الواقعية والحداثية – إلّا مدنهم الفاضلة اتفقتْ في ملامحها الأساس ، حيثُ اشتملت على ما ينقصُ وجودنا الأرضي – وما لا يكون إلَّا  في الفردوس – وهو : الحق ، الخير ، العدل ، الجمال .

إرسال تعليق

0 تعليقات