إعلان

Header Ads
أحدث الأخبار

حجاج - قصة قصيرة للكاتب محمد عبدالله الهادي


لم يخطئني وهو يقبلُ نحوي، أحدِّق في ملامحه وأعرفه، من القلب إلي القلب رسول كما يقولون، يفرد ذراعيه علي اتساعهما ويبتسم ويقبل نحوي، أهي نفس الابتسامة أم تبدلتْ قليلاً؟ اللحظة بتفردها لا تسعفني بإجابة، نفس القامة بمعالمها وتضاريسها، أهو الفتى الذي كنت أعرفه؟ الجلباب سابغ عليه ومفتوح طوقه بإهمال، يبين الصديري العريض متآكل الحواف، العمامة المحكمة علي الطاقية بأهدابها المدلاَّة علي منكبيه، كان قـد توقف يفرك أجفانه كأنما يتأكـد.. 
لم يخطئني وهو يقبل نحوي، يضحك ويأخذني في أحضانه، آخذه بين ذراعيّ، أربت علي كتفيه وأصيح: 
ـ "حَجَّاج.. صديقي القديم.. أهلاً أهلاً..".
يميل برأسه قليلاً للوراء فأرى لمعة عينيه، أين ذلك البريق الشقي؟ أم أنه خبا؟..
ـ "يا ألف مرحباً يا أستاذ حسـونة.. سنين وأنت غايب!..".
.. كنتُ عائداً لقريتي بعـد غربتي التي طالتْ، نزلتُ عند الكوبري، علي مدد البصر تبـدو الخضرة لا نهائية، أشقُّ طريقي علي "المشَّاية" الصاعدة إلي الـدور، البيوت الطينية القديمة انبثقتْ من جوفها وطفحتْ علي حوافها حوائط أسمنتية عالية، أدبُّ علي أرضي التي لا تنكرني خجلان محزوناً، تجيش عاطفتي وأنا أدنو من مرتع صباي وتدنو معها قطرات دمعي من جفوني، بحرج أقرئ الناس السلام: سلام عليكم يا إخوان، من كانوا صغاراً كبروا، وأنجبت البطون الخصبة أجيالاً جديدة، تبدلتْ الملامح علي ذاكرتي، يميتني خوف هائل من احتمالية ألاَّ أعرفهم وألاَّ يعرفوني، هم أهلي وناسي وعزوتي في كل الأحوال..
"حَجَّاج" يضمني بقوَّة لصدره العريض فينتفي من صدري وجع البعاد، تبرأ فيه الفرحة الآمنة، يعود فؤادي لعهد البراءة والصبا الأول، "حجَّاج".. كفه الخشنة في كفِّي، يهزُّها، أهزُّ كفَّه، "سلامات.. سلامات"، خذني يا "حجَّاج" للزمن القديم، هيَّا، يدي في يدك ، نجري علي جسـر الترعة صوب كوبري الميزانية ..
" في بكور الصبح والشمس ما زالت في مخبئها ، " حجَّاج " يحمل صرَّة غدائه، رغيف بتَّاو وقطعة جبن قريش، كفّي في كفِّه نعـدو علي شاطئ الترعة، بيدي الأخرى يتدلَّى اللوح الصفيح، عند جناح الكوبري يتجمع الأنفار، لا أتركه إلاَّ عندما ألمح الريس "عبد العزيز" قادماً، أهو يهش الهواء بعصاه كأنما يطارد أشباحاً وهمية، أم أنه يؤكـد مكانته وحضوره القوي في نفوس هؤلاء الأنفار الذين هبُّـوا للقائه كزعيم؟ كانوا صامتين وهـو يمرر عصاه علي رؤوسهم يحصيهم فئات حسب أعمارهم، كباراً كانوا أو صغاراً، الأجر والعمر مرتبطان، "حجَّاج" الشقي يشب لأعلى علي أصابع قـدميه ويغمز لي بعينه، ولا تنطلي لعبته علي مكر الريس، أراهم وهم يقفزون للمقطورة، وتزمجر دواليب الجرَّار وهو يتهيأ لجرهم ماضياً بهم وتاركاً خلفه سحابة من الغبار، صديقي "حجَّاج" صغيرٌ بينهم، يفـرد ذراعيه باتساع ويبتسم لي ملوحاً، ينشغل قلبي الصغير وترتج جدرانه، يتراوح ما بين هؤلاء الماضين للعمل في أراضي الإصلاح الجديدة وبين "زُخْمة" سيدنا الشيخ "إسماعيل" تنتظرني بتحفز وأنا جالس أمامه أهز ظهري برتابة، ألقي آخر ما حفظت من آيات، تهوي علي ظهري، تذكرني عند الخطأ وتُصلح ما اعوج به لساني، أفيق من شرودي وغبار الجرَّار المتباعد يميل صوب مصرف "صان" البحري ويتباعد ويتلاشى، أخبط الأرض بقدمي، وأحمل لوحي الصفيح لـ "الكتَّاب".. 
"أبو حيش" أرض الحكايات والأساطير والخرافات، مأوى اللصوص والقتلة وأبناء الليل والضواري المتوحشة والعفاريت والجان، تنزلها الجرَّارات والبلدوزرات الروسية الحمراء العملاقة لأول مـرَّة..
"معــقول يا أولاد ؟!"..
سيدنا مشغول عنَّا ونحن في لمَّة، الولـد يتساءل ويحكي لنا عن نبات "الغرقد" الشوكي الهائل والبلدوزر يكسر أحد أفرعه.. كيف طار الفرع في الهواء صارخاً بصوت الأشباح التي تسكنه؟.. كيف انبثق الدم الأحمر القاني من اللحاء الأخضر؟.. كيف تعطلتْ الآلة؟.. كيف هرب العاملون؟..، الشركة ـ مع بدء العمل ـ تغري الناس بالأجر العالي، لكن من يملك الجرأة ولا يخاف؟.. "أبو حيش" أرض مجاهل تسكنها الأشباح، عفـير لزج وناعم ممـتد علي مرمى البصر البعـيد وراء المصـرف، تتبدَّى للمتأمل نهـاراً دغلاً من الأشواك الهائلة والنباتات الغريبة في ظلام مجهـول، تتخللها برك مائية ضحلة آسنة، سطحية ولامعة ، تتحوَّل صيفاً لرقائق بلورية هشَّة لأملاح ناصعة البياض ، تلمع في عين الشمس وتصيب بدن الأرض، كنَّا نحفن حوافها القريبة نهاراً ونتذوق طعمها اللاذع، بالليل هي دمدمات، أصوات الضواري، عوالم خفية ومخيفة تنبثق في الظـلام ، يقولون: 
الداخل مفـقود والخــارج  مولــود..
ينقطع الكلام علي ألسنتنا ويتساقط خوفاً، نفيق علي صوت أم "حجَّاج" بثوبها الأسود الكالح، تحمل "السلَّة" علي ذراعها وتسأل: 
ـ "الناس بتعمل إيه في أرض البرك يا سيدنا؟". 
ـ "إصلاح زراعي يا آمنة.. الأرض العفير ح تزرع".
تمصمص العجوز شفتيها غير مصدقة وتمضي بسلَّتها تخبط أبواب الدور، تسأل عن البيض الذي تجمعه علي مدار الأسبوع وتبيعه لتاجر سوق الاثنين، وترعى ولدها الوحيد "حجَّاج".
في المساء وأبي يرشف الشاي، قلتُ له:
ـ "عاوز أروح وأشوف الإصلاح". 
نظر نحوي و"شخـط" بصوت باتر: 
ـ "احفظ القرآن الأول". 
أشحتُ بوجهي محتجاً وغاضباً ، لانتْ ملامحه وابتسم وأخذ رأسي في باطن كمّه : 
ـ "ح آخدك ونروح هناك.. تشوف وتتفرج.. بس انتهِ من الحفظ واختم المصحف".
هززتُ رأسي وقلت بغير اقتناع: 
ـ "حاضــر".
لكنني نمتُ بعينين مفتوحتين لم تغمـض أجفانهـما إلاَّ بعـد أن أخذتُ  قراري.
أقرضني "حجَّاج" فأساً صغـيراً، اندسستُ وسط الأنفـار في بطن المقطورة قبل أن تمضي، هناك، نزلنا، قُسمنا جماعات، ذهب الرجال للأعمال الشاقة، وقف الخولي علي رأس الأرض ووزعنا نحن العيال علي الخطوط، الأرض تحت أقدامنا الصغيرة الحافية كأنها في دور نقاهة وتتماثل للشفاء، تدب الحياة في أوصالها بعد قرون من الموات، صحيح أن الأشواك كثيرة والملح الطافح يبرقش بطن الخطوط وقيعان المصارف الجافة، إلاَّ أن نباتات الفول السوداني المبعثرة بخضرتها وحيويتها تتحدَّى الوهن، تحفز فؤوسنا الصغيرة كي تهوي وتجتث الأشواك من أصولها، "حجَّاج" بجواري يعمل في صمت، الفأس بيده خفيفة لكنها ثقيلة بيمناي، يعمل ويسبقني ثم يعود ليساعدني ويقيل عثرتي، الخولي بعصاه جالس علي حافة المصرف خلفنا، ترمقنا عيناه بين الحين والأخـر عندما يصـيح:
ـ "خلَّص يا ولـد".
الأرض ممتدة، واسعة، العمل الذي أرهقنا يبدو كأنه لن ينتهي أبداً، لا هذا النهار ولا غيره، هذا ما أخاله، لكنهم حولي يعملون بصمت وآلية، لاشيء البتة يشغلهم، كان الخولي مقرفصاً يرمقنا تارة ويتطلع للطريق تارة أخرى وهو يمتص دخان لفافته، عندما يلمح مظلة المعاون البيضاء علي البعد مشرعةً في الهواء صوب الشمس يتحسب قدومه ويهب واقفاً، يطرق ظهورنا المحنية بعصاه دون ذنب فلا تنتصب قامة واحدة مطلقاً، حتى لا يقع عليه الجزاء، هو أيضاً "غلبان" أكثر من "الغلب" نفسه، لديه أسرة وأبناء يعولهم ويحلم بقطعة أرض يزرعها، النهار طويل لا ينتهي والشمس حامية، الأملاح تتفاعل مع قدميّ بالنار في بطنيهما، الجوع والعطش يستبدان بي، أرغب في العودة للدار فلقد عرفتُ ما جهل به عقلي وما عصي علي فهمي، أعرف أن "زُخْمة" سيدنا تنتظرني في "الكتَّاب" لكنها أرحم ألف مرَّة، "حجَّاج" يضحك من كدري وسوء حالي، والمعاون الذي وقف علي حافة الطريق يضحك أيضاً وهو يقول للخولي: 
ـ "الأرض ح تتوزع علي المعـدمين.. وح تسكنوا البيوت دي".
تميل عيوننا غير مصدقة إلي حيث يشير إصبعه للبنايات الصفراء الجديدة التي تنتصب علي البعـد، واقفة وخاوية وصامتة ولا أحـد يسكنها حتى الآن..
ختمتُ القرآن وارتديتُ طاقيتي "الشبيكة" وجلبابي الأبيض، دخلـتُ "المضيفة" وسلمتُ علي أعمامي وأخوالي وسيدنا الشيخ "إسماعيل" وقبلت ظواهر أكفهم ومسحتُ بها جبهتي، عمِّي الكبير "مصطفى" يتبسط معي ويشاغبني:
ـ "أهلاً بالشيخ حسـونة".
بان أبي بفتحة الباب مشمراً كمَّيه وكفّه مخضبة بالدماء وخاطب جمع الضيوف:
ـ "حيَّــاكم الله". 
عرفتُ أنه ذبح الحلال، الجدي الأحمر القوي الذي كان ينطح بقرنيه عندما أجري خلفه فأخاف منه وأقفز السور الواطئ صوب الزرع، حزنتُ لفراقه، لكنني فرحتُ أننا سنأكل جميعاً لحمه المسلوق، بعد ما رُفعت الصواني راحوا يحتسـون الشاي ويكبسون نار الجوزة وهم يأخذون منها الأنفاس، كانوا يتحدثون عن اللجنة التي جاءتْ القرية لتوزع أرض الإصلاح وشرطها لمن لا يملكـون..
أخذني أبي لسوق الخمـيس في البلد المجاور، عند أسمنت الكوبري رأيتُ "حجَّاج" يلهو، قال لي: 
ـ "أمي زعلانة.. ما أخدناش أرض في الإصلاح.. بتعيط علي أبويا وبتقول يا ريته كان عايش".
قلت له:
ـ "أنا ح أتصور علشـان أروح المدرسة".
ضحك وقال :
ـ "يا بخـتك" . 
مضيتُ محزوناً أفكر فيما قاله..
هناك، نزع المصور طاقيتي وسوَّى هندامي وعدَّل صندوقه ومدَّ "بوزه" نحوي ، قبل أن يخفي رأسه في الجراب الأسود، صاح بي آمراً عندما رأى اكتئابي:
ـ "افـرد وجهك ومش ترمش.. هوب".
نزع الغطاء وأقفله في لحظة سحرية جاهدتُ فيها كي أبدو سعيداً..
حمل أبي أوراقي وصوري ودلف لمبنى كبير، قال لي: 
ـ "المدرسة ح تفتح بعد شهر.. وعليك يا بطل تتعـود تيجي لوحدك".
أجتـاز معه الباب الواسع وقلبي يرتجف ويدق دقَّـات عالية، أرى المعلمين الذين سيعلمونني بحللهم النظيفة المكوية، وأناساً كثيرين مثل أبي يسحبون أطفـالاً مثلي، في التو تذكرتُ "حجَّاج" وانبثقتْ صورته بين الغبـار يلوح لي ويضحك..".. 
أفقتُ علي كفِّه تهز كفّي، رجعتُ إلي صديقي "حجَّاج" الذي أخذني للزمن القديم والذي تجسَّم أمامي في لحظة، صوته ينتشلني من لجَّة ذكرياتي:
ـ "سلامات.. سلامات.. والله زمان يا أستاذ حسـونة".
 وجاءتْ عربة نقل صغيرة، توقفتْ، استأذن "حجَّاج" منِّي وهو يسرع قبل أن تفوته العربة:
ـ "علي فين يا حجَّاج؟". 
ـ "أرض استصلاح جديدة في الصالحية يا أستاذ.. أنا أشتغل هناك".
رأيته يقفز في صندوق العربة الخلفي مع جمع من الناس.. 
عندما مضتْ العربة أثارتْ خلفها زوبعة من الغبار، ألفيتُ نفسي واقفاً وشارداً، ما زالت آثار كفِّه الخشنة بكفِّي، يبسط ذراعيه علي اتساعهما ويبتسم ويلوح لي مودعاً، مضتْ العربة مسرعة للبعـيد حتى صارتْ نقطة صغيرة علي الدرب تتلاشى رويداً رويداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. الف شكر للاجيال المصرية
    الف شكر للصديق ابراهيم عطية

    ردحذف