إعلان

Header Ads
أحدث الأخبار

التوظيف الدلالي لانماط التقفية في القصيدة العربية المعاصرة ( دراسة نقدية تحليلية ) بقلم - د. كاميليا عبد الفتاح


القافية الدائرية:
في هذا النسق التقفوي يعودُ  الشاعر في نهاية القصيدة  إلى قافية السطر الأول منها ، معلنا بذلك ختامَ الجملة الشعرية  - أو القصيدة  -  ومبرزًا  مدى الوحدة الإيقاعية  التي تنتظمُ هذه القصيدة . وقد لا حظنا ارتكاز أكثر من شاعرٍ حداثيٍ على هذا النسق ، خاصة أدونيس الذي نتمثّل بقصيدته  "الشهيد" ، حيثُ يقولُ :
حين رأيتُ الليلَ في جفونه الملتهبةْ
ولم أجد في وجهه نخيلا
ولم أجدْ نجومًا
عصفتُ حول رأسه -
كالريحِ - وانكسرتُ مثلَ قصبةْ  "  ( أدونيس  ، .ديوان  المسرح والمرايا    ) 
إذا تأمَّلنا  موضع القافية – في الجزء السابق من قصيدة أدونيس – سنجدهُا  في السطر الأول والسطر  الأخير  منه  ، بما يقربُ أن يكون دائرةً أو إطارًا موسيقيّا  ، وهذا الإطار مُحمَّلٌ بدلالة مهمة ، هي طرح الليل كيانًا  مُستلِبًا ، وطرح ذات الشاعر كيانًا مُنكسِرًا  ، وقد أبرز النسقُ التقفوي مدى المساواة – والتكافؤ – بين قوة الاستلابِ ، وقوة الانكسار ، وذلك من خلال  التناظر الإيقاعي  بين  مفردتي " الملتهبة ، والقصبة  "  ، بما جسّدَ  إشكالية اغتراب الشاعر  في هيئةٍ  دائرية مُغلقة توحي بحصار هذه الذات . 

• * * القافية المتنوعة في غير نسق:
يترددُ هذا النمطُ من التقفية في التجارب الشعرية التي تحملُ شحنةً عاليةً من التوتّر الدرامي ، ويرتكزُ  فيها  الشاعرُ على التشابكِ الجدليّ بين عدّة  أصواتٍ إنسانيةٍ  ، بما يبرزُ النّمو الانفعالي – والدلاليّ - وصولا إلى المخاض الرؤيوي   . 
وتُعدُّ قصيدةُ " أنشودةُ المطر " لبدر شاكر السيّاب من التجارب الشعرية الدالّة على قدرة الشاعر المعاصر على توظيف هذا النسق من التقفية  توظيفًا دلاليًّا يتوسّلُ به الشاعرُ لإبراز  - ما يستطيعُ من –دقائق رؤيته الشعرية . 
بدأ  " السيَّابُ " قصيدته وفق نسقِ القافية المتناوبة  - التي ساهمت في الإيحاء بالاطِّرادِ الإيقاعيّ -   ثمَّ  أخذت القافية  وضعيةً جديدةً  ،  حيثُ بدأت تتدفقُ  - على مدار الأسطر – في غيرِ نسقٍ مُتعمَّدٍ  ، كما في هذا الموضع من القصيدة ، الذي يقول فيه :  
تثاءب المساءُ  والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحُّ من دموعها الثقالْ
كأنَّ طفلًا باتَ يهذي قبل أن ينامْ
بأنَّ أمهَ التي أفاقَ منذ عامْ
فلم يجدها  ، ثم حين لجّ في السؤالْ
قالوا له: "بعد غدٍ تعود..."
لابدَّ أن تعود
وإن تهامسَ الرفاقُ أنَّها هناكْ
في جانب التلِّ تنام نومةَ اللحودْ
تسفّ من ترابها وتشربُ المطر
كأنَّ صياداً حزيناً يجمعُ الشِّباك
ويلعنُ المياه والقدرْ
وينثر الغناءَ حيث يأفلُ القمرْ"  (  السياب . ديوان "  أنشودة المطر   )

لقد توالت حروفُ الرويّ – في الموضع السابق من قصيدة السيّاب على النحو التالي :ل- ل- م- م- ل- د- د- ك- د- ر- ك- ر- ر
وقد اطّردَ  هذا التدفقُ –اللَّا نسقي- مع النمو الدرامي الذي تجسَّد من خلال الذوات الإنسانية التي بدت معادلًا موضوعيًّا للشاعر ، وهي :  الطفل  الحزين لفقد أمّه ، الصيّاد الحزين لمعاداة القدر له  . تماهت طبيعة ُ تأزّم  كلٍّ من الطفل والصياد مع طبيعة تأزّم الشاعر ، و مثَّل الفقدُ نقطة التَّماهي – أو التماس -  بين هذه الذوات ، فقد بدت الأمّ المُتوفَّاة  المُغيّبة في قبرِها  - كذلك بدا الصيدُ المُرتجى - المُستعصي  على شباك  الصيَّاد - رمزًا للعراق النائية التي تمثّل للشاعر  حلمَه المُرتجى  المُفتَقد . لقد وجدتْ هذه الرؤية الشعرية ما يُجسِّدُها  من  خلال تدفّق  الدلالات الإيحائية التي تفجَّرت من الطاقاتِ الموسيقيّة لحروف الروي غير المُطردة في نسق  ، والتي بدا عدمُ اطرادها انعكاسا لاضطراب وجدان الشاعر  و تقاذفه الوجداني بين مشاعر شتّى .

• وقد انسجمَ  هذا النّمطُ من التقفية مع التجاربُ الشعرية ذات الرؤى الميتافيزيقية  ،  تلاءمت التقفيةُ غير النَّسقية مع ما تتميزُ به  مناخات الاستغراق الروحي  والعذابات الفكرية  - في هذه التجارب - من حدّةٍ وثورات عاطفية غير ممنهجة  .  ومن ذلك التجربة الشعرية للبيَّاتي  في ديوانه " بستان عائشة "  - وغير ذلك من قصائده  ودواوينه  - ونُحيلُ إلى قصيدته  "مقاطع من عذابات فريد الدين العطار" التي بدت وكأنّها حالةٌ من التوقِ الإنساني إلى المطلقِ ، والشوق إلى الانعتاق الروحي من قيود المادة  حنينًا إلى سماوات نائية عن عوالم الحقيقة . 
ويعدُّ الاتجاه الحداثي أكثر الاتجاهات الشعريةالمعاصرة  ميلا إلى الارتكاز على التقفية اللَّانسقية  بما  ينسجمُ  مع أبرز  مبادئ هذا الاتّجاه ، وأعني الحرص على  تكريس المُتغيّر – الفني والفكري -   ونفي الثابت – السائد – ومعاداة المُتوقّع  -  الفكري و  النغمي  - كما أنَّ  الاطراد غير النسقي للقافية أسهم في تحريرها من الغنائية ،  أو  لنقل  : أسهم في دفعها إلى مناخ هو مزيج من النزعة الدرامية والغنائية الجديدة  . (  لم أطرح نموذجا تحليليا بسبب طول الدراسة ) 
  . 
• ***  نسق التقفية الداخلية:
تتردد القافية- في هذا النّسقِ – في  ثنايا الأسطر الشعرية- لا في نهايتها فقط  - بما يمنحُ القصيدةَ مزيدًا من الزَّخم الإيقاعي ، و يُضفي العمقِ على الإيحاءات الشعورية الناتجة من الانتشار  الصوتي لحروف  القافية على مدار القصيدة . وربَّما كان هذا الزخم الإيقاعي  سببًا لارتكاز كثيرٍ من قصائد الاتجاه الواقعي  على هذا النَّمط من التقفية  ؛ لأنَّه يمنحُ الشاعر إحساسًا بالتواصل مع  نموذجه التراثي  الذي  يعتدُّ بوضوح الإيقاع  ، ويعتبرهُ من السمات الأساسية للشعر  . وقد ارتكزَ صلاح عبد الصبور على هذا النمط في قصيدته "عودٌ إلى ما جرى ذلك المساء" ،  وأبرز قدرته الفنية على توظيفه للإيحاء بالدلالة المنسجمة مع مسار  رؤيته الشعرية .  يقول:
في ذلك المساءْ
يا سادتي الأماجد، الأشاوس
الأحامد، الأحاسن
يا زينة المدائنْ
يا أنجم الساري،
مفرقين في البلاد تزدادون روعة

فإن تجمَّعتم،
فنورُ   كلِّ  كوكب  يخامر النور الذي يبثه رفيقُه
ولا يذوبُ فيه
أقولها صدقا، ولا أزيد فيه ( صلاح عبد الصبور .ديوان  تأملات في زمن جريح ) 

طرح  صلاح عبد الصبور – في  الموضع السابق من قصيدته – رؤيته الشعرية حول فئة مجتمعية – معروفة في كل مجتمعٍ إنساني – هي أدعياء الثقافة والمعرفة  الذين يتوسّلون – ويتسولون -بالحذلقة  اللغوية - والتشدّق والتقعّر- وقد اعتمد - في طرح موقفه من هذه الفئة  - على أسلوب السخرية من خلال  التقفية الداخلية التي  بدت معادلا إيقاعيا للتنميق اللغوي – والتّأنقِ اللفظي الزائف   -  الذي تحرص عليه هذه الفئة لإخفاء فراغها العقلي وفقرها المعرفي و والإبداعي . 
• وفي قصيدة  " صلاة " يوظِّفُ أمل دنقل  هذا النمط من التقفية للتعبير عن منحىً دلاليٍ مختلفٍ . يقول في القصيدة :
"أبانا الذي في المباحثِ،  نحنُ رعاياكَ  باق
لكَ الجبروتُ  وباقٍ لنا الملكوتُ  وباق لمن
تحرسُ الرهبوت"
.............
تفردتَ وحدكَ باليُسرِ. إنَّ اليمينَ لفي الخُسرِ
أما اليسارُ ففي العُسر. إلاَّ  الذينَ  يُمَاشُون
إلا الذين يعيشون يحشونَ بالصُّحفِ المشتراة
العيونَ ، فيعْشُونَ ،  إلا الذين يَشُونَ ، وإلاَّ
الذين يوشُّونَ ياقاتِ قمصانهم برباطِ السُّكوتِ
تعاليتَ ، ماذا يهمُّك ممن يذمُّك؟ اليوم يومُك
يرقى السجينُ إلى سُدَّةِ العرشِ
والعرشُ يصبحُ سجنًا جديدا وأنت مكانك ، قد
يتبدلُ رسمُك واسمُك ، لكنَّ جوهرَك الفردَ
لا يتحولُ ، الصمتُ وشمُك والصمتُ وسمُك
والصمتُ –حيث التفتَّ - يزين وسمُك
بين خيوطِ يديك المُشبَّكتين المُصمغتين يلفُّ
الفراشةَ.. والعنكبوتْ "  ( أمل دنقل . ديوان "  العهد الآتي) 

لقد جسَّد الإيقاعُ المتولّدِ من التقفية الداخلية – في الجزء السابق من قصيدة دنقل - الوضعية المقدّسة  التي تحيطُ برجل المباحث ،  فقد تشابه  هذا الإيقاعُ بجرسه المتوالي - في وحداتٍ متكررة – مع  إيقاعِ الطقوس الشعائريّة التي تصاحبُ العبادات والابتهالات . ومن ثمَّ فقد بدا رجلُ المباحثِ – من خلال هذا الإيقاع– محاطًا بقداسةٍ غامضةٍ تتعدّى حدود المعقول إلى الَّلا معقول – أو حدود البشري إلى ما فوق البشري  - إمعانًا من الشاعر في إبراز ارتكاز هذه الشخصية – في استمداد وضعيتها - على القهر والترهيب واستلاب حرية الآخرين ؛ بما يجعلُ وجودَها مرهونًا بإفنائهم – أوتعبيدهم-   ولذلك فقد جاءت كلمات القصيدة –كما يقول د. محمد حماسة عبد اللطيف "جميعا على وزان الكهنوت (د.  محمد حماسة عبد اللطيف .الجملة في الشعر العربي ) 
إنَّ التقفية الداخلية  في القصيدة العربية المعاصرة لم تكن بدافع الاستعاضة عن الإيقاع التقليدي – للشعر العربي -  بل كانت جزءًا من تجربة الشاعر ورؤيته، بما تمنحُ من إيحاءاتٍ دلالية  تنسجمُ مع المسار الفكري والشعوري في التجربة الشعرية . كما صوّرتْ مدى التّشوُّف المُلح للشاعر المعاصر في البحث عن إيقاعه الخاص،  انطلاقًا من وعيه بأنّ هذا الإيقاع يتعدى حدود أهميته النغمية ليصل إلى مصاف القدرة على  تجسيد الروح الداخلية التي تنتظمُ التجربة الشعرية . 
ــــــــــــــــــــــــــــ
** أعتذر لاضطراري لاقتطاع جزء كبير من الدراسة - ومنها المقدمة العلمية والخاتمة ، وبعض أنماط التقفية ، وذلك لطول الدراسة وعجز المنشور عن تحملها ) 

إرسال تعليق

0 تعليقات